الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ذكر هذين الحديثين البغوي في سنده.قال تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ} وهي حق ثابت وقد جحدوها وهذا أعظم مما وصموك به لأنه ليس بشيء بالنسبة لانكار وجود القيامة وإعادة الأجساد إلى ما كانت عليه، وعليه فان ما قالوه لك ليس بعجيب، لاتيانهم بأعجب منه وهو جحودهم الآخرة التي أمرناك أن تهددهم بها {وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا} 11 لأن تكذيبك بها تكذيب لنا قال تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} الآية 30 من سورة الأنعام في ج 2 وقد هيّأنا لهم هذه النار التي لا تنطفيء لبعد مداها وكثرة وقودها بأمثالهم {إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ} بمرأى الناظرين أمثالنا ولا يقال كيف تراهم وهي ليست من أصحاب الرؤية لان الذي سعرها قادر على خلق الرؤية فيها فتراهم من مسيرة أعوام، لأنها تشرف لأهلها، أو إن رأتهم بمعنى قابلتهم فتكون بمرأى منهم وإذا رأوها فكأنها رأتهم، قال تعالى: {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ} الآية 91 من سورة الشعراء الآتية والمعنى أنها لا تخفى على أحد وقريء تراهم أي زبانيتها ولا مندوحة فيه {سَمِعُوا لَها تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} 12 غليانا شديدا وصوتا من تلهبها غير صوت تغيظها من توقدها يشبه الغليان بالغيظ بجامع علو الصوت في كل لأن الغضبان يرتفع صوته لحرارة الغضب في جوفه والغليان له صوت يسمع أيضا لحرارة النار والزفير خروج النفس بشدة، ضد الشهيق الذي هو نزوله بشدة أيضا قال عبيد بن عمير تزخر جهنم يوم القيامة زخرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا خرّ على وجهه لهول ما يسمع ويرى فيا ويل أهلها، ويا سعادة من زحزح عنها اللهم أجرنا منها وأبعدنا عنها {وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكانًا ضَيِّقًا} شديدا لعذابهم إذ فيها مواقع ضيقة وأخرى واسعة ومتوسطة ولكل منها ناس {مُقَرَّنِينَ} بالسلاسل مصفدين بالحديد بجوامع تجمع بين أيديهم وأعناقهم قال ابن عباس: تضيق عليهم كما يضيق الزج بالرمح، والكرب مع الضيق أشد منه مع السعة كما أن الروح مع السّعة أروح منه مع الضيق {دَعَوْا هُنالِكَ} في ذلك المكان الضيق الهائل منها تمنوا أن يصيبهم {ثُبُورًا} 13 هلاكا قاضيا عليهم ليتخلصوا مما هم فيه وأشد من الموت ما يتمنى معه الموت، وأول بعض المفسرين دعوا ينادوا، أي قالوا يا هلاكاه والأول أولى.أخرج أحمد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والبزار وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في البعث بسند صحيح عن أنس قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:أول من يكسى حلة من النار إبليس فيضعها على صاحبه وذريته من بعده وهو ينادي يا ثبوراه، ويقولون يا ثبورهم، حتى يقف على النار فيقول يا ثبوراه ويقولون يا ثبورهم، وفي بعض الروايات: أول من يقول ذلك إبليس، ثم يتبعه أتباعه.وظاهره شمول الاتباع كفرة الإنس والجن.
وقد {كانَ} وجود ما يريدونه فيها {عَلى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْؤُلًا} 16 عنه للطائعين الذين كانوا يقولون في الدنيا {رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ} الآية 194 من آل عمران والاستفهام في صدر الآية المفسرة تقريري يفهم جوابه من المقام لأن انعدام الأخيرية في النار معلوم، والقصد توبيخ الكفرة المقصودين بالآية السابقة وأمثالهم وتقريعهم على ما هم متلبسون به، قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} كالملائكة وعيسى بن مريم وعزير عليهم السلام والإنس والجن والأوثان والشمس والقمر والكواكب والحيوان.
وقال ابن الزبيدي: ثم يقول تعالى للعابدين بعد أن أسمعهم قول معبوديهم على زعمهم مواجهة انظروا {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ} من زعم هؤلاء أنهم آلهة وأنهم دعوكم في الدنيا لعبادتهم فما تقولون؟ وهذا زيادة في التقريع والتوبيخ فيصمتون، ثم يخاطبهم اللّه تعالى بقوله: {فَما تَسْتَطِيعُونَ} الآن {صَرْفًا} أي دفع العذاب عنكم بوجه من الوجوه كما يقتضيه التنكير، أي لا بالذات ولا بالواسطة {وَلا نَصْرًا} 18 لكم ولا عونا من أحد، أي لا أنتم ولا الذين اتخذتموهم آلهة، فكلاكما بالضعف والعجز سواء، وقرىء بالياء، وعليه يكون المعنى فما يقدرون هؤلاء الذين عبدتموهم في الدنيا بصورة من الصور ولا بنوع من الأنواع، دفع العذاب عنكم بأنفسهم وليس لهم أعوان بذلك، فهم عاجزون أنفسهم وغيرهم أعجز، ثم التفت جل شأنه بخطابه إلى كافة المكلفين فقال: {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ} نفسه أيها الناس فيشرك به {نُذِقْهُ عَذابًا كَبِيرًا} 19 على شركه، لأن يظلم هنا بمعنى يشرك لذلك عظم عذابه، إذ لا يكون العذاب الكبير إلا على الشرك، لأن مطلق الظلم لا يستوجب ذلك، وقد سمى اللّه الشرك ظلما بقوله: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} الآية 12 من سورة لقمان في ج 2، ولأن من الظلم ما هو كبيرة يفسق بها مرتكبه، والفاسق لدى أهل السنة والجماعة لا يخلد بالنار، والمراد بقوله تعالى كبيرا أي مخلدا فيصرف هنا بسبب هذا القيد إلى الشرك، ولا قيمة لقول من يقول إن مرتكب الكبيرة يخلد في النار لمخالفته إجماع الأمة وما عليه عقائدهم، قال صاحب الشيبانية: أي دون استحلال لأنه به يكفر فيخلد إذا لم يتب.وسيأتي لهذا البحث صلة في تفسير الآية 72 من سورة مريم الآتية، ثم التفت جلت عظمته إلى حبيبه صلى اللّه عليه وسلم ليسليه عما قلوه فيه {وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ} مثلك لأن هذا من شأن البشر فلا مبرر لهم أن يعيروك فيه لانك لم تدع غير البشر به كي يتوجه إليك قولهم.ولأن جميع الرسل قبلك كان هذا شأنهم ولك بهم أسوة، وبما أن ذلك كان عادة مطردة مستمرة لا يستغنى عنها البشر فليست محلا للطعن، وهذا الخطاب وإن كان موجها لحضرة الرسول إلا أنه جاء بمعرض الرد لقومة فكأنه قال قل لهم هكذا ولا تلتفت إلى تقولهم {وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} بلاء ومحنة واختبارا وامتحانا، قالوا نزلت هذه الآية في ابتلاء الشريف بالوضيع، وذلك أن الشريف إذا أراد أن يسلم رأي الوضيع أسلم قبله فيقدم عليه بالإسلام فيأنف عن الإسلام محتجّا بسابقته والفضل له عليه، فيصر على كفره، ولم يعلم أن التفضيل يكون بالأعمال الصالحة والآداب الكاملة، لا بمطلق الإسلام فذلك افتتان بعضهم ببعض، وقال غير واحد إنها نزلت في الذين عيّروا حضرة الرسول بالفقر تسلية له، كالآية قبلها إذ نزلت في الذين عيّروه بالأكل والمشي {أَتَصْبِرُونَ} على هذه الحالة أيها المؤمنون من التعيير بالفقر وغيره، وعلى الأذى الواقع بكم من الكفرة والشدة التي أنتم فيها أم لا؟ وفي هذا الاستفهام معنى التهديد على عدم الصبر كما لا يخفى، فاصبروا على هذا كله ليزداد أجركم وتقوى عزيمتكم، وإلا فيزداد همكم وحزنكم.
|